حديث (يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة)
السؤال :
نسمع كثيرًا من الخطباء يَذْكُر حديث الرجل الذي وَصْفَهُ النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بأنه من أهل الجنة , وذهب إليه عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ ليطلع على عمله الذي بلغ به هذه المنـزلة , فوجده لا يُكْثِر من العمل , إلا أنه ليس في قلبه حسد لأحد من المسلمين , فهل هذا صحيح أم لا ؟
الإجابة
هذا الحديث قد كتبت فيه بحثا موسعا , وانتهيت فيه إلى أن الحديث ضعيف في السند , وفي متنه نكارة , ويحسن بي أن أسوق الحديث هنا: فقد أخرجه عبدالرزاق , وأحمد , وابن عساكر , والبيهقي في ” الشعب ” وغيرهم من حديث
أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كنا يوما جلوسا عند رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقال ” يَطْلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة ” قال: فطلع رجل من الأنصار , تنطف لحيته من وضوئه , قد علق نعليه في يده الشمال , فَسَلَّم , فلما كان من الغد ؛ قال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مثل ذلك , فطلع ذلك الرجل على مثل المرة الأولى , فلما كان اليوم الثالث ؛ قال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مثل مقالته أيضًا , فطلع الرجل على مثل حاله الأول , فلما قام النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص , فقال: إني لاحيت – أي خاصمت – أبي , فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا , فإن رأيت أن تُؤْويني إليك حتى تمضي الثلاث ؟ قال: نعم , قال أنس: كان عبدالله يحدث أنه بات معه ثلاث ليال , فلم يره يقوم من الليل شيئا , غير أنه إذا تعارَّ من الليل ؛ انقلب عن فراشه , وذَكَرَ الله وكَبَّرَ , حتى يقوم لصلاة الفجر , قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا , فلما مضت الثلاث , وكدت أحتقر عمله ؛ قلت: يا عبدالله , لم يكن بيني وبين والدِي هجرة ولا غضب , لكنني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يقول ثلاث مرات: ” يَطْلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة ” فطَلَعْتَ ثلاث مرات , فأردت أن آوي إليك ؛ لأنظر ما عملك , فأقتدي بك , فلم أرك تعمل كبير عمل , فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت ، قال: فانصرفت عنه ، فلما ولِّيتُ دعاني ، قال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين غِشًّا , ولا أحسده على ما أعطاه الله إياه , فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك , وهي التي لا نطيق .
فهذا الحديث رواه الزهري عن أنس , وفي رواية قال: أخبرني أنس , وفي رواية قال: حدثني من لا أتهم عن أنس , والراجح في الاختلاف عليه أن أكثر الرواة عنه والأحفظ رووه عن الزهري عمن لا يتهم عن أنس , وهذه الواسطة المبهمة لا يحتج بها ، وقد صرح جماعة من الأئمة بعدم سماع الزهري هذا الحديث من أنس: كالدارقطنيّ , وحمزة بن محمد الكناني , والحافظ ابن حجر , وقد أشار أبو حاتم لضعفه , وغمز العراقي في صحته , وتوقف فيه ابن كثير , ومن صححه فباعتبار النظر إلى بعض أسانيده التي فيها التصريح بالإخبار بين الزهري وأنس , ومن ضعفه فباعتبار جمع الطرق للحديث , والوقوف على علته , والباب إذا لم تُجْمَع طرقه لم تُعْرَف علته , هذا من جهة السند , ومن جهة المتن ففيه نكارة أيضا لوجوه:
1- قول عبد الله بن عمرو: ” لاحيت أبي , فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا ” … الخ ، هذا كذب , يجب أن ننـزه الصحابي العابد الناسك عنه , لاسيما وقد استدل بذلك من ينتسب للدعوة اليوم , فقال: الغاية تبرر الوسيلة , ومن أجل هذا ارتكب المحرمات ليصل إلى غايته , فلا سلم دينه من ارتكاب المعاصي , ولا وصل إلى غاية تُحْمَد , ولا سلمت أمته من الفتن , والله المستعان .
2- قول عبدالله بن عمرو: ” كدت أحتقر عمله ” ليس هذا الأسلوب من المعهود عن السلف , أنهم يحتقرون من المعروف شيئا وإن كان يسيرا , وقد أنكر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – على الثلاثة الذين تقالوا عمل رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وعَدَّ ذلك رغبة عن سنته , فقال: ” … ومن رغب عن سنتي ؛ فليس مني ” متفق عليه .
3- قول عبدالله بن عمرو عندما أخبره الرجل بسلامة صدره من الحسد: ” وهي التي لا نطيق ” فيستبعد ذلك من الصحابة , الذين هم أبر الأمة قلوبًا , وأصفاها أفئدة , وأعمقها علمًا , وأقلها تكلفًا – رضي الله عنهم جميعًا – فكيف لا يطيقون ذلك ، وهم الذين بلغوا ما لم يبلغه هذا الرجل وأمثاله من المنازل ؟
وعلى كل حال فهكذا تعمل الأحاديث الضعيفة في الناس , ونحن في غنى عنها – ولله الحمد – بالأحاديث الصحيحة التي تحذر من: الحسد والغش للمسلمين , لكن من كانت بضاعته في علوم السنة مزجاة ؛ احتج بكسير , وعوير , وثالث ما فيه خير , والله المستعان .
2021-09-12 13:01:29