0

فتاوى

الرئيسية / فتاوى العبادات/ رؤية الهلال في بلد دون بلد
رؤية الهلال في بلد دون بلد
السؤال :
في بعض السنوات نسمع أن الدولة الفلانية قد ثبت عندها رؤية هلال رمضان , في ليلة كذا , ونرى بعض الدول لا تأخذ بهذا الرؤية , فهل يجوز ذلك ؟ أم أنه لا بد من الصيام عند بقية المسلمين برؤية بعضهم ؟
الإجابة
إذا كان هذا الاختلاف سببه نزاعات سياسية وأهواء إقليمية , أو عرْقِية ، أو طائفية ، ونحو ذلك ؛ فلا يجوز لهم ذلك ؛ لأن الأصل أن المسلمين يجب عليهم أن يردوا ما اختلفوا فيه إلى الله ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال تعالى: ]وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[ ويقول سبحانه: ] فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [ ولا يجوز أن تكون الخلافات الدنيوية سببًا للاختلاف في الدين , فهذا للأسف أمر موجود , والله المستعان .

أما إذا كان هذا الاختلاف سببه اختلاف أقوال أهل العلم ؛ فهاك تحرير المسألة: فقد اختلف العلماء في ذلك – حسب ما وقفت عليه من كلامهم – وهاأنذا ألخصه لك:
فمنهم من قال: إذا ثبتت رؤية الهلال في مكان ؛ لزم الناسَ كُلَّهم الصومُ من مشارق الأرض ومغاربها , وهو قول المالكية , والليث , وبعض الشافعية , وأبي حنيفة , وأحمد كما في ” طرح التثريب ” (4/116) واستدلوا على ذلك بأدلة ، منها:
(1) قول النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم –: ” صـوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته . ” أخرجه البخاري ( 1909) ومسلم ( 1081) من حديث أبي هريرة , وما كان في معناه من الأحاديث الأخرى , وهذا محمول على رؤية البعض , لأن الكل لا يرون ذلك في العادة , إنما يراه من تثبت به الرؤية , ويعمل بقية المسلمين برؤيته , فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض .
(2) واستدلوا أيضًا بحديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره: أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال: ” الصوم يوم تصومونه , والفطر يوم تفطرونه , والأضحى يوم تضحونه . ” .
والذي يظهر لي من بحث هذا الحديث: أن الجملة الأولى حسنة وباقي الحديث صحيح لغيره . والله أعلم .
(3) أن هذا أَدْعَى إلى اجتماع كلمة المسلمين وقوتهم , والأصل أن أخبار المسلمين يلزم الأخذ بها عند بقيتهم , والرؤيـة من جملة هذه الأخبار.
القول الثاني: أنه إذا رآه أهل بلد ؛ وجب عليهم وعلى من كان في حكمهم الصيام دون غيرهم , وهو قول أكثر الشافعية , واستدلوا على قولهم هذا بأدلة:
(1) قوله تعالى: ] فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ قالوا: ومن لم يكن من المشاهدين , ولم يكن في حكمهم ؛ فلا يقال في حقه: إنه شاهده , لا حقيقة ولا حكمًا .
(2) قول النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، المتفق عليه ، وقد سبق من أدلة القول الأول –: ” صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته . ” , ووجه الاستدلال عندهم كما سبق في الآية .
(3) ما جاء في ” صحيح مسلم ” ك: الصوم ( 1087): عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية , قال: فقَدِمْتُ الشام ، فقضيت حاجتها , اسْتُهِلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام , فرأيت الهلال ليلة الجمعة , ثم قدمت المدينة في آخر الشهر , فسألني عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – ثم ذكر الهلال , فقال: متى رأيتم الهلال ؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة , فقال: أنت رأيته ؟ فقلت: نعم , ورآه الناس , وصاموا , وصام معاوية , فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت , فلا نـزال نصوم حتى نكمل ثلاثين , أو نراه , فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال: لا , هكذا أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – .
(4) أن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون كما هو مُشاهَد , فإذا طلع الفجر في المشرق , فلا يلزم أهل المغرب أن يُمسكوا ، لأن الليل مازال عندهم , وكذلك لو غربت الشمس , فكما أنهم يختلفون في الإفطار والإمساك اليومي , فكذلك يكون في الإفطار والإمساك الشهري .
واختلف أهل هذا القول في معنى ” ومن كان في حكمهم ” أي: في القرب والبعد , فمنهم من قال: إذا اتحدت المطالع ؛ فليصوموا جميعًا ، وإذا اختلفت فكل له رؤية خاصة به ، ومنهم من قال: المسافة في ذلك مسافة القصر ، ومنهم من قال: إذا أمكن بلوغ الخبر في ليلة رؤية الهلال ، فمن بلغهم فليصوموا , ومن لا فلا , وهذا باعتبار حال الأولين , وإلا ففي زماننا هذا يطير الخبر في أرجاء الأرض في وقت قصير جدًّا , ومنهم من قال: ” ضابط القرب من البعد: أن يكون الغالب أنه إذا أبصره هؤلاء لا يخفى عليهم إلا لعارض , سواء في ذلك مسافة القصر أو غيرها . ” انتهى ما قاله السرخسي , انظر” المجموع ” ( 6/274) .
القول الثالث: أن الناس تبع للإمام , فإن ألزمهم بالصوم صاموا , قالوا: والبلاد الكثيرة في حق الإمام كالبلدة الواحدة , كل هذا من أجل حسم مادة النـزاع المفضية إلى مفاسد عظيمة .
هذه أشهر الأقوال وأدلتها .
والذي يترجح عندي: توحيد الرؤية للمسلمين إن أمكن ذلك لما سبق من أدلة , فإن لم يمكن ذلك ؛ فكل يجتهد في تحري رؤية الهلال , ويعمل برؤيته .
وضابط إمكان توحيد الرؤية: إمكان بلوغ الخبر إلى بقية المسلمين في الليلة التي يُرى فيها الهلال , وقد كان هذا الأمر في الأزمنة السابقة متعذرًا , ولذلك عمل كل منهم برؤيته , أما اليوم ففي زمن قصير جدًّا يمكن أن يذاع الخبر في أنحاء الأرض , ولا يبيت أحد المسلمين إلا وقد علم أن هلال رمضان أو شوال قد رُئي في المكان الفلاني , وبهذا القول تلتئم الأدلة إن شاء الله تعالى .
وأما الاستدلال بقوله تعالى: ]فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [, وحديث: ” صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته ” فليس فيهما دلالة على تعدد الرؤية ؛ لأنه إذا رآه أو شهده البعض ، وعلم الباقون بذلك فخبره لازم لهم , ورؤيته رؤية لهم ، ولو قلنا بظاهر الآية والحديث ؛ للزم أنه إذا رأى بعض أهل بلدة فلا يلزم بقية أهل هذه البلدة العمل برؤيته , وهذا باطل , وقصة كريب مع ابن عباس – رضي الله عنهما – محمولة على عدم تمكن أهل المدينة من العلم برؤية أهل الشام في رمضان , وفي شوال أيضا , لأنه يمكن أن يقال: إن قول ابن عباس: ” فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ” محمول على أنهم لا يتمكنون من العلم برؤية أهل الشام لهلال شوال , فسيَبْقَوْن على رؤيتهم , وليس فيه أن أهل المدينة لو اطلعوا على رؤية أهل الشام في هلال شوال قبل فوات الأوان ؛ أنهم لا يعملون برؤية أهل الشام , إلا أنه يرد على ذلك: لماذا لم يَبْنِ ابن عباس على رؤية أهل الشام , ويحسب الشهر من ليلة الجمعة حتى يتم ثلاثين أو يرى الهلال ؟ وعلى كل حال: فهو اجتهاد من ابن عباس – رضي الله عنهما – في مقابلة النص , وأما قوله: ” هكذا أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ” فلا يلزم من ذلك أنه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أمرهم بعدم الاعتداء برؤية غيرهم , فقد قال الشوكاني – رحمه الله – في ” نيل الأوطار ” (4/208): ” والأمر الكائن من رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ: ” لا تصوموا حتى تروا الهلال , ولا تفطروا حتى تروه , فإن غم عليكم , فأكملوا العدة ثلاثين . ” وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد , بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين , فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم , لأنه إذا رآه أهل بلد ؛ فقد رآه المسلمون , فيلزم غيرهم ما لزمهم …” انتهى .
وفي “الإحكام شرح عمدة الأحكام” لابن دقيق العيد (2/207) ذكر قول ابن عباس: ” هكذا أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ” , ثم قال: ” ويمكن أنه أراد بذلك هذا الحديث العام , دون حديث: ” صوموا لرؤيته ؛ وأفطروا لرؤيته , فإن غُم عليكم …” الحديث , لا حديثًا خاصًّا بهذه المسـألة , وهو الظاهر عندي , والله أعلم ” انتهى . وانظره في “طرح التثريب ” (4/116) .
هذا وهناك من أجاب على حديث كريب بأن ابن عباس لم تثبت عنده رؤية الهلال بخير الواحد , وهذا القول ليس بقوي عندي , وانظر ” المجموع ” (6/273) و” المغني” (3/8) .
وأما الاستدلال باختلاف التوقيت اليومي في الإمساك والإفطار على الاختلاف في التوقيت الشهري في الإمساك والإفطار ؛ فلا يتجه هنا: لأن المقصود أن أهل الغرب إذا علموا برؤية أهل الشرق للهلال , فمعنى ذلك أنهم إذا جن عليهم الليل عزموا على الصيام من الليل التالي للخبر , لا أنهم يعزمون على الصيام حين يبلغهم الخبر , ولو كان ذلك وسط النهار!! أضف إلى ذلك أن الرجوع إلى المطالع أمر مضطرب , وما هكذا دين المسلمين , فلو قلنا: إن البلد الفلاني , والبلد الفلاني في مطلع واحد , واختلفنا في بلاد قريبة منهما عن يمينهما أو شمالهما أو ما يليهما من البلدان شيئًا فشيئًا , وهكذا !! فليس هناك حد صحيح يُوقَف عليه .
والقول بتوحيد الرؤية قد نصره شيخ الإسلام كما في “مجموع الفتاوى” (25/105) وانظر ما قاله شيخنا الألباني – حفظه الله – في “الصحيحة” ( 6/1/253) و”تمام المنة” ص( 397- 398) .
وهناك من قَوَّى القول الثاني , أي أن كل جهة تعمل برؤيتها , وقد قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين – حفظه الله –: ” وهذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة . ” اهـ . من “الشرح الممتع” (6/322) , وانظر “فقه النوازل” (2/222-223) لشيخنا بكر بن عبد الله أبو زيد -حفظه الله- .
وأما قول من قال بالرجوع إلى إمام المسلمين ؛ فدليله دفع المفسدة , ودرء النـزاع , وهذا أمر له حظه من الوجاهة والقبول , حتى قال شيخنا ابن عثيمين – حفظه الله –: ” وعمل الناس اليوم على هذا , أنه إذا ثبت عند ولي الأمر ؛ لزم جميع من تحت ولايته أن يلتزموا بصوم أو فطر , وهذا من الناحية الاجتماعية قول قوي , حتى لو صححنا القول الثاني الذي نحكم فيه باختلاف المطالع , فيجب على من رأى أن المسألة مبينة على المطالع ألا يظهر خلافًا لما عليه الناس .” ا هـ (6/322) .
وقال شيخنا الألباني – حفظه الله – في “تمام المنة”: ص ( 398): ” وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك ؛ فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوموا مع دولهم ، ولا ينقسم على نفسه , فيصوم بعضهم معها , وبعضهم مع غيرها , تقدمت في صيامها أو تأخرت , لما في ذلك من توسع دائرة الخلاف في الشعب الواحد , كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين , والله المستعان .” اهـ . وانظره بنحوه في “الصحيحة” (6/1/ 253-254) .
(تنبيه): قال ابن عبد البر – رحمه الله –: ” قد أجمعوا أنه لا تراعى الرؤية فيما أُخِّر من البلدان , كالأندلس من خراسان , وكذلك كل بلد له رؤيته , إلا ما كان كالمصر الكبير , وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين .” انتهى من “الاستذكار” (10/30) .
وقد تعقب دعوى الإجماع الشوكاني في: “نيل الأوطار” (4/209) فقال: ” ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول – يعني لزوم الرؤية للجميع – وهو القول الذي ذهب إليه الشوكاني خلاف الإجماع – قال: لأن الإجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة .” اهـ . يعني جماعة ذكرهم في “النيل” .
إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية حمل كلام ابن عبد البر على عدم التمكن من إبلاغ خبر رؤية أهل الشرق لأهل الغرب , فقال كما في “مجموع الفتاوى” ( 25/107): ” فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ ؛ لقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم –: “صوموا لرؤيته ” فمن بلغه أنه رُئي ؛ ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً , وهذا يطابق ما ذكره ابن عبدالبر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيها إلا بعد شهر, فلا فائدة فيه ,بخلاف الأماكن التي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر , فإنها محل الاعتبار . ” اهـ.
(تنبيه آخر): الاعتماد في الصيام والإفطار على رؤية الهلال , لا على علم الحساب الفلكي , ومن استعمل علم الحساب , ولم يأخذ بالرؤية ؛ فقد ابتدع في الدين , وانظر: ” فقه النوازل ” (2/191-222) . والعلم عند الله تعالى .
2021-09-12 13:03:18
فتاوى : فتاوى الصوم   -  
كود الفتوى عنوان الفتوى تصنيف الفتاوى المفتون
65434

فضل تلاوة القرآن في رمضان

فتاوى العبادات / فتاوى الصوم

أحمد بن حسن سودان المعلم
67166

التماس ليلة القدر

فتاوى العبادات / فتاوى الصوم

علي بن محمد بارويس
67448

قطرة العين للصائم

فتاوى العبادات / فتاوى الصوم

علي بن محمد بارويس
فتاوى لنفس المفتى / اللجنة
كود الفتوى عنوان الفتوى تصنيف الفتاوى المفتون
61736

تبييت نية الصيام

فتاوى العبادات / فتاوى صوم-عام

اﻟﺷﯾﺦ أﺑﻲ اﻟحسن مصطﻔﻰ اﻟﺳﻠﯾﻣﺎﻧﻲ
61676

التكبير في عيدي الأضحى والفطر

فتاوى الصلاة / فتاوى صلاة العيدين

اﻟﺷﯾﺦ أﺑﻲ اﻟحسن مصطﻔﻰ اﻟﺳﻠﯾﻣﺎﻧﻲ
61653

الاجتماع بعد صلاة العيد

فتاوى الصلاة / فتاوى صلاة العيدين

اﻟﺷﯾﺦ أﺑﻲ اﻟحسن مصطﻔﻰ اﻟﺳﻠﯾﻣﺎﻧﻲ
64589

الإكمال فى طواف القدوم وهي محدثة

فتاوى العبادات / فتاوى الحج والعمرة

علي بن محمد بارويس
54720

الحكم فيمن تتهاون في أداء الصلاة

فتاوى الصلاة / فتاوى قضاء الفوائت

القاضي محمد بن إسماعيل العمراني
64139

حكم الصلاة لمن عنده مرض في الجهاز التناسلي

فتاوى الصلاة / فتاوى الصلاة-عام

أحمد بن حسن سودان المعلم
فتاوى من نفس الموضوع