محادثة الجني المتلبس بالإنسي
السؤال :
[س67] شيخي -حفظك الله-: هل يجوز محادثة الجني المتلبس بالإنسي، وهو كافر، ويرفض الخروج إلا بقراءة قرآن كثير، ويُسْلِمُ ويَنْطِق الشهادتين، ثم يتعهد بعدم الرجوع، ثم يَرْجِعُ ويَكْفُر مرة ثانية، ويقول حبيتها، ولا أَخْرُج، ويتلفظ بألفاظ كفر، ال هل عليّ إثم عندما أقوم بالمحادثة وأسمع كلامه الكفري والجحود في الله؟
الإجابة
معلوم أن الجنِّي قد يتلبّس بالإنسي، فيتسبب له في الصَّرَع، أو عدم التوازن في مشيته، أو جلسته، أو كلامه، وقد تظهر عليه آثار بدنية، كخروج زبد من فيه، أو رعشة شديدة تعتريه، أو خوف مفرط يصاحبه صياح أو فرار من بعض الحيوانات؛ كالكلاب والقطط، ونحو ذلك، والأصل في عدم إنكار تلبس الجني بالإنسي قولُ الله -عز وجل-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) فالتشبيه بذلك دليل على حدوثه في الواقع المشَاهَد، وكذلك ما نقله بعض العلماء العدول الذين هم من أَبْعَد الناس عن الشعوذة والدجل والكهانة، ومن أكثرهم حماية لجناب التوحيد، كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره من العلماء المعاصرين.
لكن علاج ذلك يكون بقراءة بعض سور أو آيات من كتاب الله -جَلّ وعلا- وبالرُّقَى الشرعية، والأدعية التي وردت بها السنة النبوية، ولا بأس بقراءة بعض الآيات وتكرارها، إذا علم العدول المختبرون من الرقاة بأن لها تأثيرًا على المريض بالمس أو بالسحر أو بالعين، أو نحو ذلك، كما أنه لا بأس بالضرب للمريض أو الخنق، إذا كان ذلك يحدث من عَدْل خبير بهذا الشأن، وقد فعل ذلك بعض الأئمة، ويرى المختصّون أن هذا الضرب لا يشعر به الإنسي، والذي يتألم منه الجني، وقد أفاق بعض المرضى، وسُئِل عما حصل له من ضرْب أو خنْق، فنفى وقوع ذلك عليه، مما يدل على عدم شعوره بشيء من ذلك.
كل هذا إذا روعيت الضوابط الشرعية، من عدم خَلْوَة الرجل الراقي بالمرأة المريضة -وإن كان عدلا مأمونًا، يزعم أنه يريد علاجها، وإخراج الجني منها- وبشرط عدم التوسع في باب العلاج، حتى يؤول الأمر إلى بعض المحاذير الشرعية، كما ورد ذِكْرُ بعض هذه المحاذير في السؤال.
والذي ينظر في أحوال الناس تجاه هذا الأمر، يجد أنهم على أربع طوائف:
الأولى: طائفة تنفي أن يكون للعين أو للسحر تأثير على شخص ما بالمرض، وهذه الطائفة يُردّ عليها بما سبق، وبما جاء عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في رُقْية الحسن والحسين، وغيرهما من الصحابة، وما ترتب على ذلك من شفاء للمريض وعافية للمُبْتَلى.
الثانية: طائفة تَوَسَّعَتْ في هذا الباب، حتى فَزَعُوا للسحرة والمشعوذين والكهان، في دفع هذه الأمراض عنهم وعن أولادهم وأقاربهم، وهذه الطائفة وقعت في محاذير شرعية تصل ببعضهم إلى درجة الكفر بالله -عز وجل- والعياذ بالله، لقوله عليه الصلاة والسلام: “مَنْ أَتى كاهنًا أو عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بما يقول؛ فقد كَفَرَ بما أُنْزِل على محمد-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-” أخرجه أحمد وغيره، وهو صحيح.
الثالثة: طائفة الأصل فيها التَّدَيُّن بالكتاب والسنة، والرجوع إلى أهل العلم فيما يعتريهم من إشكالات، أو تساؤلات، إلا أنهم وقعوا في نوع من التوسع في طرق علاج المرضى بالرُّقَى والتعاويذ، حتى وصل بهم الأمر إلى مخاطبة الجني، وسؤاله عن بعض الأمور الغيبية، كأن يسأله: من الذي فعل السحر لفلان؟ وأين وضعه؟ وكيف نخرجه؟ وما هي الطريقة الصحيحة في علاجه؟ إلى غير ذلك من الأمور التي فيها استعانة بالجن في أمور غيبية لا يعلمها على حقيقتها إلا الله -عز وجل- وهذه الطائفة بهذا الفعل انحرفت عن المسار الصحيح، وشابهت الطائفة الثانية في بعض أفعالها؛ لأن هذه الأسئلة فَرْعٌ عن تصديق الجني بما أخبر به، ومعلوم أن شياطين الإنس لا ينبغي الاطمئنان إلى ما يخبرون به، إلا بعد التبين والتثبت، لقوله تعالى: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فكيف نُصَدِّق شياطين الجن، وهم أَعْظم شَيْطَنَةً من شياطين الإنس؟ ويخبرون بكلمة صادقة، ويَكْذِبون معها مائة كذبة، كما في الحديث الصحيح عند البخاري أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: “إن الملائكة تَنْزِلُ في العنان -وهو السحاب- فَتَذْكُر الأمر قُضِيَ في السماء، فَتَسْتَرِقُ الشياطين السمعَ، فتسمعه، فَتُوحِيِه إلى الكُهّان، فيَكْذِبُون معها مائة كَذِبَة من عند أنفسهم“.
وربما تقع فتن عظيمة بين طائفتين من المسلمين بسبب هذه الأخبار المتلقاة عن شياطين الجن، فتتهم إحدى الطائفتين الأخرى بأن ولدكم قد عمل السحر لولدنا، وربما أفضى ذلك إلى القتال، فمن يُصَدِّق الجني في مثل هذه الأخبار، ويعتدي على إخوانه المسلمين بسبب ما أخبره به الجني؛ لا يكون إلا مُصَدِّقًا للشياطين بما يقولون، ومن فعل ذلك؛ فقد يقع في الكفر بما أُنْزِلَ على محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في الحديث السابق، فإن قال: أنا لا أُصَدِّقه، فلا تُقْبَلُ له صلاة أربعين يوما، كما في “صحيح مسلم” أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: “من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة“.
وأيضًا فقد يتوسع بعض الرقاة في أمور لا تُحْمَد حالاً أو مآلاً، فقد يخلو بالمرأة، ويُفتن بجمالها أو صوتها، وشيئا فشيئا ربما وقع فيما لا يجوز له شرعا، من الإمساك ببعض جسدها أو مفاتنها، وقد سمعنا ببعض الرقاة أنه يخلو بالمريضة، وأنه تزوج امرأة كانت تتردد عليه للعلاج في وقت من الأوقات، وليس الاستنكار في مجرد الزواج بها، ولكن ما الذي حمله على الزواج بها بعد ترددها عليه فترة من الزمن، إلا الرغبة فيها، والتي هي فَرْعٌ عن رؤيتها أو الخلوة بها، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) وبعضهم يتوسع في ذلك بإلزام المرضى باستعمال أنواع معينة من الزيوت، أو البخور أو الطيب، أو نحو ذلك، والتزام طريقة معينة في استعمال هذه الأشياء، وليس في هذا الشيء بعينه أثارة من علم.
أما محادثة الجني بأمره بالخروج، وعدم السماح له بالبقاء في جسد المريض، دون استرسال معه في الأخذ والرد؛ فلا بأس بذلك، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأن الأصل في الجني الكذب، وكيف نُصَدِّقه وهو مُجْرِمٌ، قد اعتدى على إنسي، أو على امرأة يدعي محبتها، فكيف نُصَدِّقه فيما يقول؟ سواء ادعى أنه أَسْلَم أم لا، وإذا كنا لا نُصَدِّق الإنسي إذا كان فعلُهُ يخالف قولَهُ؛، فكيف نُصَدِّق الجني وهو كذلك؟ والدليل على تصديقه: الاسترسال معه في المخاطبة، ومما يدل على كذبهم أيضا ما جاء في السؤال بأن الجني أعلن الإسلام ثم كَفَرَ عدة مرات.
الرابعة: هي الطائفة التي تلزم طريقة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وطريقة العلماء المشهود لهم بحماية جناب التوحيد، والتحذير من الشرك، ووسائله الظاهرة والخفية، فتقتصر على ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعلى الأساليب التي استعملها بعض علماء الإسلام، وثَبَتَ نَفْعُها وتأثيرها، دون توسع شيئًا فشيئًا، قد يُفضي إلى ما لا تُحمد عُقْباه.
والأصل في التأثير على الجني أمران: قُوّةُ النفس الزكية للراقي، واستعمال الرقى الشرعية، مع استحضار الراقي لمعانيها، وإظهار ذلّه وخشوعه لله رب العالمين، وحاجته وفقره إليه في استجابته الدعاء من عَبْدِهِ وَوَلِيِّه الراقي، واستحضار الراقي أنه يجاهد عدوًّا أقوى منه من جهة أنه يراه هو وقبيله من حيث لا يراه الراقي، ولا يمكن أن ينتصر ضعيف على قوي في معركة كهذه، إلا بعون الله وتأييده وتوفيقه ونصره، أما مجرد الاعتماد على شُهْرة الراقي، أو النظر إلى المال الذي يَدْفَعُه ولي أمر المَرْقِي –وإن كان أخذ الأجرة على الرقية حلالا- فهذا كله، وما كان من هذا القبيل، يفتُّ في عَضُد أَثَرِ الرقية، وإخراج العدو الجني من الإنسي، عافانا الله وذرياتنا وجميع المسلمين من جميع الأمراض والأسقام والآلام، ودفع عنا وعنهم شر كل ذي شر، هو آخِذٌ بناصيته، والله أعلم.
2021-09-12 12:59:48