حكم زكاة الفطر
السؤال :
هل زكاة الفطر واجبة أو مستحبة ؟
الإجابة
اختلف أهل العلم في ذلك , فذهب جمهور أهل العلم إلى أنها واجبة وفرض , بل ادعى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض , كما في “الإجماع” (ص 35) برقم (105) ونقل النووي عن البيهقي أنه قال: ” وقد أجمع العلماء على وجوب صدقة الفطر .” اهـ من “المجموع” (6/104) وهو موجود في “السنن الكبرى” (4/159) فقال البيهقي: ” وقد أجمع أهل العلم على وجوب زكاة الفطر, وإن اختلفوا في تسميتها فرضًا, فلا يجوز تركها , وبالله التوفيق .” اهـ إلا أن دعوى الإجماع لا تصح مع وجود المخالف , وفاقًا للحافظ في “الفتح” (3/368) وخلافًا للإمام النووي في “المجموع” (6/104) .
وذهب الحنفية إلى أن صدقة الفطر واجبة وليستْ بفرض , طردًا لقاعدتهم المشهورة: أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي , والواجب ما ثبت بدليل ظني , والصواب أن الفرض والواجب بمعنى ؛ كما ذهب إليه الجمهور , ومحل ذلك كتب الأصول .
وذهب جماعة إلى أن وجوب صدقة الفطر قد نُسِخَ .
واستدل الجمهور على فرضية زكاة الفطر بما جاء في “صحيح البخاري” برقم (1503) و”صحيح مسلم” برقم (984) من حديث ابن عمر قال: ” فرض رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – صاعًا من تمرٍ , أو صاعًا من شعيرٍ , على العبد , والحر , والذكر , والأنثى , والصغير , والكبير من المسلمين ” .
وقول الصحابي: ” فرض رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كذا , فَهْمٌ منه لنص سمعه من رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – والصحابي عَدْلٌ في الفهم وحجة في اللسان , لاسيما وفي الحديث قرينة أخرى , وهي قوله: ” على العبد… الخ ” وهذا يُسْتَعْمَل في الوجوب .
واستدلوا أيضًا بعموم قوله تعالى: ]وَآتُوا الزَّكَاةَ [ قالوا: فمن جملة ذلك زكاة الفطر , وأجاب من قال بأن صدقة الفطر سنة مؤكدة بأن قول ابن عمر: ” فرض رسـول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ” أي قدَّر , كما يقال: فرض القاضي نفقة اليتيم , أي قدَّرها وعرَّف مقدارها , وقد تعقَّب ذلك ابن عبدالبر -رحمه الله- في “التمهيد” (14/324) فقال: ” والذي أذهب إليه أن لا يزال قوله ” فرض ” على معنى الإيجاب إلا بدليل الإجماع , وذلك معدوم في هذا الموضع , وقد فهم المسلمون من قوله U: ]فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ[ ونحو ذلك أنه شيء أوجبه , وقدَّرَه , وقضى به , وقال الجميع للشيء الذي أوجبه الله: هذا فرض، وما أوجبه رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فعن الله أوجبه , وقد فرض الله طاعته , وحذر عن مخالفته , فَفَرْضَ الله وفَرْضَ رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – سواء , إلا أن يقوم الدليل على الفرق بين شيء من ذلك , فيُسلَّم حينئذٍ للدليل الذي لا مَدْفَع منه , وبالله التوفيق ” ثم قال: والقول بوجوبها من جهة اتباع سبيل المؤمنين واجب أيضًا ؛ لأن القول بأنها غير واجبة شذوذ أو ضرب من الشذوذ …” اهـ . وبنحوه في “الاستذكار” (9/348) وما بعدها.
وقال ابن دقيق العيد في “الإحكام”: ” وذهب بعضهم إلى عـدم الوجوب , وحملـوا: “فرض” على معنى: “قدّر” وهو أصله في اللغة, لكنه نُقل في عُرف الاستعمال إلى الوجوب, فالحمل عليه أولى , لأن ما اشتهر في الاستعمال فالقصد إليه هو الغالب .” اهـ من “العدة حاشية الأحكام” (3/313-314) .
واستدل من قال بنسخ وجوب زكاة الفطر , بحديث قيس بن سعد بن عبادة – رضي الله عنه – أنه قال: ” كنا نصوم عاشوراء , ونؤدي زكاة الفطر , فلما نزل رمضان , ونزلت الزكاة ؛ لم نُؤْمَر به , لم نُنْهَ عنه , وكنا نفعله ” أخرجه النسائي وغيره , وسنده صحيح , وإن جهّل النووي والحافظ والصنعاني أحد رواته , مع أن الحافظ ترجمه بأنه: ” ثقة ” كما في ” التقريب ” !!
ومع صحة سنده , فهل يلزم من ذلك النسخ ؟
لا يلزم من ذلك النسخ , فقد قال الخطابي ؛ كما في “طرح التثريب” لابن العراقي (4/47): ” وهو لا يدل على زوال وجوبها , وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه , غير أن محل سائر الزكوات الأموال , ومحل زكاة الفطر الرقاب .” اهـ وبنحوه ترجم ابن خزيمة في “صحيحه” (4/81) .
وقال النووي في “المجموع” (6/104): ليس فيه – أي في حديث قيس – إسقاط الفطرة , لأنه سبق الأمر به , ولم يصرح بإسقاطها فالأصلُ بقاء وجوبها , وقوله: “لم يأمرنا” لا أثر له , لأن الأمر سبق , ولا حاجة إلى تَكْرَاره …” اهـ . وقال الإمام البيهقي – رحمه الله – في “السنن الكبرى”: ” وهذا لا يدل على سقوط فرضها , لأن نـزول فرض لا يوجب سقوط آخر , وقد أجمع أهل العلم على وجوب زكاة الفطر …” الخ ما سبق . وكلام النووي سبق إليه ابن حزم كما في “المحلى” (6/119) .
ومن جملة ما استدل به من ذهب إلى أن زكاة الفطر سنة مؤكدة وليست واجبة: حديث طلحة بن عبيد الله – رضي الله عنه – قال: جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – من أهل نجد , ثائر الرأس , يُسمَع دوي صوته , ولا يُفقه ما يقول , حتى دنا , فإذا هو يسأل عن الإسلام , فقال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم –: ” خمس صلوات في اليوم والليلة ” فقال: هل عليَّ غيرها ؟ قال: ” لا , إلا أن تطوَّع ” قال: رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – “وصيام رمضان ” قال: هل عليَّ غيره ؟ قال: ” لا, إلا أن تطوَّع ” قال: وذكر له رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – الزكاة ، قال: هلي علي غيرها ؟ قال: ” لا ، إلا أن تطوَّع ” قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقُص , قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم –: ” أفلح إن صدق ” أخرجه البخاري برقم (46) – واللفظ له – وأخرجه مسلم برقم (11) قالوا: وصدقة الفطر ليست داخلة تحت الزكاة المفروضة , بدليل حديث قيس بن سعد السابق: ” كنا نصوم عاشوراء , ونؤدي زكاة الفطر , فلما نـزل رمضان , ونزلت الزكاة , ولم نُؤْمَر به , ولم نُنْهَ عنه , وكنا نفعله ” فالحديث قد فرَّق بين الزكاة وصدقة الفطر .
وذهب الجمهور إلى أن زكاة الفطر داخلة في عموم الزكاة , واسْتُدِلَّ لهم بأن الزكاة إذا أطلقت دخل فيها زكاة الفطر , وإذا اقترنت الزكاة في النظم بزكاة الفطر افترقتا , ثم إن حديث قيس هذا فيه دلالة على الوجوب ، حيث قال: ” فلما نـزلت الزكاة لم نؤمر به … ” فدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك , وقد سبق أن دعوى النسخ لا تصح , فبقي الوجوب ثابتًا , وكذا حديث ابن عمر السابق , وفيه: ” … على كل حر وعبد …” الحديث , فقوله: ” على” يدل على الوجوب , انظر “فتح الباري” (3/368) واستدل الحافظ في الموضع نفسه بقوله تعالى: ]قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى[ فقال: ” وثبت أنها نزلت في زكاة الفطر, وثبت في ” الصحيحين ” إثبات حقيقة الفلاح لمن اقتصر على الواجبات , قال الحافظ: قيل: وفيه نظر ؛ لأن في الآية ]وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[ فيلزم وجوب صلاة العيد , ويجاب بأنه خرج بدليل عموم: ” هن خمس لا يبدل القول لدي ” ا .هـ .
قلت: قد روي تفسير الآية مرفوعًا بأنها صدقة الفطر من حديث كثير بن عبدالله بن عمرو عن أبيه عن جده عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه سئـل عن هـذه الآية ] قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [ فقال: ” زكاة الفطر ” . أخرجه البيهقي (4/159) والواحدي في “الوسيط” (4/471) وكثير إلى الوهاء والترك أقرب منه إلى الضعف , وأخرج البيهقي (4/159) من طريق أبي حماد الحنفي عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: ” نـزلت هذه الآية: ]قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[ في زكاة رمضان , وأبو حماد الحنفي لا يحتج به , وترجمته في ” اللسان ” (6/ 80-81) ففي النفس شيء من ثبوت هذا التفسير لهذه الآية , وقد قال البغوي في “تفسيره” (4/477): ” وهو قول أبي العالية وابن سيرين ” قلت: وكذا هو قول سعيد بن المسيب – كما في “تفسير عبدالرزاق” (2/367) – قال البغوي: ” وقال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل ؛ لأن هذه السورة مكية , ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر .” قال الشيخ الإمام محيي السنة وهو البغوي – رحمه الله –: يجوز أن يكون النـزول سابقًا على الحكم؛ كما قال: ]وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ[ أي حلال تقتل من شئت , وتعفو عمن شئت , قال: وظهر أثر الحل يوم الفتح , حتى قال عليه الصلاة والسلام: ” أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَار ” وكذلك نـزل بمكـة: ]سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[ …” اهـ قلت: وهذا التأويل وجيه لو صح سبب النـزول , أو التفسير النبوي للآية بصدقة الفطر , أما وفيه ضعف فلا , وهناك عدة أقوال في تفسير الآية , فالله أعلم .
واعلم أن أشهب من المالكية وابن اللبان من الشافعية وبعض أهل الظاهر هم الذين قالوا بأن صدقة الفطر سنة مؤكدة ؛ كما في “الفتح” وكذا الأصم , وابن علية ، واستدل النووي على ضعف الرواية عن ابن علية بدعوى ابن المنذر الإجماع ، وأما الأصم فقال النووي عنه: ” لا يعتد به في الإجماع .” اهـ وقد ظهر لك أن القول الراجح الوجوب , وأما الإجماع فلم يتم انعقاده , إنما هو قول الجماهير , وأئمة الفتوى , وفقهاء الأمصار , والله أعلم .
2021-09-12 13:03:17